كان يلملم أوراقة إستعدادا ً للرحيل حين تلألأت في عينيه تلك النظرة التي تعبّر عن الإنتصار و النجاح ، و كيف لا و قد أتم حالاً الصفقة التي سعى ورائها شهوراً عديدة ، لقد تم توقيع عقد بيع الأرض التي طالما حلم به ، و بالسعر الذي يحقق له أفضل إستفادة ، فبتوقيع صاحب الأرض على عقد البيع ، إنتقلت عدة آلاف من الجنيهات إلى حافظته دون عناء , بالطبع هو لم يكن المشتري ، فهو لا يملك المال - ولا الحظ كما يحلو له أن يقول - ليقدم على شراء أرض مثل تلك التي بيعت منذ هنيهة ، هو فقط وسيط ، يوفق بين البائع و المشتري و يأخذ عمولته من كلاً منهما دون معرفة الآخر بالطبع ، فهو سمسار ، وهذة مهنته ، صحيح أنه يحمل شهادة دبلوم الصنايع ، ولكنه نسى كل ما تعلمة في المدرسة الصناعية في قسم الخراطة ، فقط يتذكر تلك الورشة التي عمل فيها سنة ، و كانت كافية لتجعله يغير مسارة لللأبد ، ويقرر أن لا يعمل في هذة المهنة أبدا ً .
مشى في الشارع ، و النشوة تقطر منه مع حبات العرق المتناثرة على وجهه و صدغيه ، و شعورة بالإمتلاك يملأ كل كيانه ، و هو يحمل كيس النقود الثقيل ، عدة آلاف من الرزم النقدية ، ذات الرائحة النفاذة ، ستستقر بجوار مثيلاتها في جوف دولاب الملابس العتيق في غرفة نومة ، حتى غد ، حين تفتح البنوك أبوابها لتلتهم و تلفظ أوراق البنكنوت ، كعادتها كل يوم ، لن يضع هذا المال في الدفتر ، بل سيضعه في الحساب الجاري ، فهو سيحتاجة بعد عشرة أيام ليعطي للمقاول دفعة من دفعات البناء الذي يشيده في منطقة شبرا الخيمة ، ليصبح لديه – بيت ملك – كما حلم دائما ، هو منزل من أربع طوابق على مساحة مائة و عشرون مترا في منطقة شديدة العشوائية ، لكنه بالنسبة له كقصر فيرساي ، هو حلمه الكبير ، و الآن يتحقق رويدا رويدا ، بالطبع لن يعطي للمقاول دفعته كامله ، و سيتعلل بنقص المال و ضيق الأحوال ، كما إنه سيحاول أن يحصل منه على تخفيض ما ، ربما ينجح . جزء آخر من هذا المبلغ سيذهب إلى قسط التأمين – الذي يقسم الوسط – كما يقول دائما ، فتأمين أربعة سيارات نقل ليس بالأمر الهين ، صحيح أنه إشتراهم بنصف ثمنهم ، لحاجة البائع الماسة لبيعهم وقتها ، و بالطبع هي شطارة أن "قرص" عليه في السعر مستغلا حاجة الماسة للبيع و النقود ، ولكن ماذا لو إستطاع أن يأخر أقساط التأمين هذة ، أو يماطل فيها ، ربما كان هذا أفضل ، فهو لا يزرع النقود ، ولا يضرب الأرض لتطرح ذهبا ً ، كما أنه عليه الكثير من المصروفات ، يكفي منها السماد و الكيماوي اللازمين لزراعة الخمس أفدنه المنبسطة تحت شمس أسيوط ، تلك الخمسة أفدنه التي إستولى عليها كميراث ، و التي أدت إلى القطيعة بينه و بين أخواته البنات و أزواجهن الجشعين ، الذين كانوا يحرضون أخواته عليه طمعا في الأرض ليس إلا ، لكنه كان "صاحيلهم كويس " ولم يترك لهم فرصة الهجوم ، فأستولى على الميراث فورا بعد وفاة الأب ، كما أستولى على أرض الأم حال حياتها دون عناء يذكر ، لذلك فهو يحمد الله دائما أنه لم يخلق له أخ ذكر يقاسمة و يعانده في ما أكتسب او كسب . هناك أيضا ضرائب محل العلافة الذي يجب دفعها هذة الأيام ، سحقا لهذة الضرائب التي ندفعها ولا نعرف لها مقابل قط .
كان يمشي مترجلا على يمين الطريق في شارع شريف ، عندما تذكر أنه لابد أن يذهب أولا إلى العتبة ، فهو يريد أن يلحم إطار نظارته الصدأ ، ربما يكافيء نفسه بشراء إطارا ً جديدا ً ، طبعا ً إذا كان السعر مناسبا جدا ً ، و إلا ً ، فليلحمها و كفى ، وصل ميدان العتبة و بدأ يعد العدة لمباغته العامل في ورشة النظارات ، رسم تعبير الغضب بإحكام على وجهه المستدير ، و ضغط رأسه لينتفخ لغده تحته ، و هم ليعبر الطريق و هو يلوح بيديه معبرا ً عن الإستياء ، فها هو العامل يقف على باب الورشة ، و يراه وهو قادم ، بالطبع هي مقدمات لخلاف لابد أن يخرج منه منتصرا ، ليخفّض بعض الجنيهات ، أو يحصل على "شنبر نظارة " جديد بثمن بخس ، لقد إعتاد العامل منه على هذا التصرف ، حتى بدأ يفقد تأثيره عليه ، ولكن لا سبيل آخر للفوز بالمال سوى التعامل بتلك الطريقة مع هؤلاء الحسالة الجشعين . تقدم في إتجاه الورشة مهرولا ، متفاديا العديد من السيارات التي تمر في الطريق الفاصل بينه و بين باب الورشة ، تعجب من نظرة العامل الفزعه له ، كما تعجب من الصخب و الصراخ ، و عندما رآى ظل السيارة النقل الذي غمره لم يدرك في حينها أنه أصبح ضحية حادث مروع ، و ربما . . . لن يدرك أبداً .