Pages

وسيم

محني الرأس دامع العينين ، كان يمر وسيم إلى جوار محل الشربتلي مودعًا ، في هذا الصباح الباكر من صيف عام " 1945 " .. كان هو الطفل ذو العشرة أعوام الذي طالما تأمل تلك الملابس التي تكسو تماثيل المانيكان الخشبية ، ملابس رجال من أفضل طراز ، ريدنجوت و إسموكينج و معاطف صوفية ، و بدلات تشريفاتية و قمصان حريرية و كتانية ، و أحذية جلدية ذات لونين الأبيض و الأسود ، و طرابيش من الجوخ الأحمر ، كلها وضعت في الواجهة الزجاجية الأمامية ، أما في الواجهة الجانبية فهناك أصناف من الساعات و المحافظ الجلدية و الأحزمة ، و القلادات و الدبابيس الذهبية و أزرار الأساور ، إلى آخر تلك الأشياء التي تميز الطبقة العليا في المجتمع من البكاوات و الباشاوات زبائن هذا المحل الراقي .

كان وسيم يعرف كل معروضات هذا المحل ، و يحفظها عن ظهر قلب ، وكيف لا و هو الذي يقف عند هذه المعروضات يتأملها يوميا أكثر من ثلاث ساعات ، ذهابا و إيابا يتفحصها ، يقيمها ، يتمناها ، يحلم بأن يكون أحد زبائن هذا المحل عندما يكبر .. يتخيل نفسه في كل بدلة أو قميص أو جورب .. يتصور دولاب ملابسه و هو ممتلئ بهذه الأصناف الكثيرة من ثياب علية القوم ، ساعده على ذلك أن المحل يقع تحت شقة عائلته مباشرةً ، و لكنه الآن متجه و أهله إلى سفر بعيد ، لا يعلم متى سيعود منه ولا كيف ، فعائلته الكريمة قررت أن تنهي أعمالها في مصر ، و تهاجر إلى بلاد الإنكليز كما يقولون ، طالما شعر وسيم بالضيق لارتباط عائلته بالمحتل في تلك الأيام ، لكنه كان يعلم أن لكل شيء ثمنا ، و أن تلك الحياة الرغدة التي يعيشها ، هي نتاج تلك العلاقة غير المريحة ، و التي طالما أرقته و أحرجته بين أقرانه في المدرسة و الحي .. الآن هو ذاهب بغير رجعة ، سعيداً بهروبه من نظرات الحقد في عيون أقرانه ، و لكنه حزين كل الحزن أنه لن يستطيع أن يكون يوماً من زبائن محل الشربتلي الشهير ، و لن يتلمس الدفء تحت معاطفه الصوفية في ليالي البرد القارس .

مرت من الأعوام عشرون ، ووسيم الآن شاب يافع ، متزوج من فتاة إنجليزية ، و له منها طفلة جميلة ، و في انتظار طفل آخر ، لم يعرف بعد هل هو ولد أم بنت ، فنحن الآن في العام " 1965 "، و لم تكن ظهرت تقنية السونار بعد ، و هو الآن في طريقه إلى أولى إجازاته في بلده مصر ، على متن الباخرة التي تقله من أحد موانئ البحر الإنجليزي إلى ميناء الإسكندرية .. حاول أن يتذكر أي شيء عن مصر ، تذكر الشوارع بصور متداخلة ، و الأشخاص كأشباح من الماضي السحيق ، فقط تذكر تفاصيل محل الشربتلي بكل دقة ، تعرّف داخل عقله على مكانه ، مظاهره و ألوانه ، أشكال وتفصيلات الملابس المعروضة داخل واجهته الزجاجية البراقة ، تذكر كل شيء بكل دقة ، و كأنه لم يغادر المكان سوى بالأمس ، و في طريقه من الإسكندرية للقاهرة ، كان مشتاقاً أن يرى المعروضات الجديدة ، و قرر أن يصبح زبوناً كما تمنى طوال عمره .. خرج من محطة القطار و كأنه عاشق ولهان يسرع ليلاقي حبيبته ، استقل سيارة تاكسي " شارع فؤاد يا أسطى "، أغلق الباب أو السائق كان قد أغلقه ورائه ، لا يدري ، فقط كل ما جال بخاطره في الطريق ماذا سيختار ، معطف أم بدلة للسهرة ؟ حذاء أسود أم بني اللون ؟ ماذا سيقول للبائع ، آه ، البائع ، هل ما زال هذا الرجل السمين الأصلع ذو الابتسامة العريضة و المتعرق دائما هو من يخدم الزبائن داخل محل الشربتلي ، أم ترى قد تغير هذا الشخص ، كما تغيرت أشياء كثيرة طوال العشرين سنة الماضية ؟ " وصلنا يا أستاذ " هكذا أيقظه صوت السائق من خواطره .. نقده مبلغا من المال و شكره .. تابع لافتات المحال على جوانب العمارات ، آه ، ها هو محل الشربتلي ، على واجهته لافتة تقول " مكتبة الشربتلي للثقافة و الفنون " .. تسمر وسيم في مكانه ، انعقد لسانه ، انفرج فوه عن صيحة دهشة مكتومة داخله .. أين الملابس و الأحذية ؟ أين المعاطف و الجوارب و القلادات ؟ لا يرى أمامه سوى كتب ، رفوف من الكتب .. دخل بدافع الفضول تتصفح عيناه ما على الرفوف من كلمات و عناوين : " الاشتراكية و مذهب التعددية " ، " الثورة المصرية " ، " الفكر التعاوني و آثاره على المجتمع " ، " مقالات في النظرية الماركسية " ، " القومية العربية " ، " الشعوب العربية و تحديات العصر " ، " ناصر و الثورة " ، " الميثاق " .. اندهش وسيم من هذا التغير الكبير في المكان ، و الذي أعقب التغير في الزمان و القيادات و التوجهات و السلطات . حزن كثيرا ، و عرف أن حلمه في أن يلبس من محلات الشربتلي و أن يكون أحد زبائنه المرموقين قد تبدد للأبد .. ابتاع بعض الكتب و شكر البائع و خرج ، وفي نهاية إجازته حاول أن لا ينظر لمحل الشربتلي و هو يعبر الطريق ليستقل سيارة أجرة ، لتقله إلى محطة القطار ، لكنه لم يشعر بنفسه إلا و هو يقف داخل مكتبة الشربتلي ، و يبتاع كتابا جديدا يعينه على وحدة السفر و طول المسافة ، كان الكتاب بعنوان " تصفية الإقطاع في التجربة المصرية " .

مرت سنوات ، و سنوات أخرى ، وسيم الآن في مطار القاهرة في العام " 1980 "، يحمل حقائب السفر و مبلغا كبيرا من المال ، و سنوات عمر تتجاوز الخامسة و الأربعين ، و شعيرات بيضاء أضاءت جانبي رأسه ، و مشكلات اجتماعية طاحنة .. انفصال مؤلم عن زوجته الإنجليزية ، و انفراد الابنة بحياتها على الطريقة الأوربية ، و تذمر دائم من الابن على كل ما هو عربي .. القصة الدائمة للمهاجر العائد إلى الشرق ، نجاح في العمل و فشل اجتماعي يمنع أي بهجة يمكن أن تفوز بها مقابل هذا النجاح العملي .. زواج من أجنبية ينتهي بالانفصال ، و الأولاد مع الأم دائما ، و يعود الأب أدراجه يلملم نقوده متجها إلى جذوره التي كانت ، و كأي مهاجر عربي عائد إلى بلاده ، اتجه وسيم إلى مصر ، وهو الآن في طريقه إلى بيت العائلة ، الذي ظل مغلقا تسع سنوات ، بعد أن توفيت آخر الخادمات المصريات التي كانت ترعى البيت من وقت لآخر في أثناء غياب أصحابه . تذكر محل الشربتلي ، الذي أصبح مكتبة الشربتلي فيما بعد ، تذكر الكتب التي كان قد ابتاعها و قرأها ، تذكر أيضا أنها الكتب الوحيدة التي أحضرها معه و هو عائد من سنوات غربته ، على الرغم من المكتبة في بيته اللندني الزاخرة بكل ما هو قيّم ، فقط هذه الكتب هي ما قرر هو أن يأخذها ، أن يحتفظ بها ، و كأنه بذلك يحمل صك انتمائه إلى مصر .. فاجأه صوت السائق الجهوري : " وصلنا يا باشا ، أي خدمة " سأل عن الأجرة ، و أجابه السائق بمبلغ مبالغ فيه بعض الشيء ، نقده إياه و ترجل من السيارة و عينيه تسبقانه ، بحثا عن مكتبة الشربتلي ، لتصطدم بلافته ذات ألوان صفراء و خضراء و حمراء كتب عليها " بوتيك شربات " .. ارتسمت الدهشة على وجه وسيم و جحظت عيناه في مشهد يذكرنا بأفلام كارتون الأطفال ، سقط فكه السفلي و انعقد حاجباه و زام " وااااااااااو " تقدم رويدا رويدا ليقترب من المكان ، متفحصا أصناف البضاعة المعروضة في واجهته الزجاجية ، التي أصبحت غير براقه بالمرة ، من كثرة ما بها من ملصقات ، على الرفوف أنواع متعددة من الشامبوهات و الكريمات و إكسسوارات السيدات ، و شرائط الكاسيت و منتجات بلاستيكية و استانلس ستيل خاصة بالمطابخ و أعمال الطهي ، و برفانات و ماكينات حلاقة كهربائية و يدوية و بعض لعب الأطفال و...و...و...و " كله مستورد يا بيه " ، نظر إلى البائع على باب المحل ، فوجده يخاطبه بأسلوب مقتحم و لهجه بورسعيدية واضحة ، دخل وسيم إلى المحل ، فلم تخطئ عينه المتدربة على المنتجات الأوربية الجيدة ، سوء حالة المنتجات المعروضة ، و عدم جودتها ، بل إنه رأى في بعضها أنها منتجات معيبة ، و غير صالحة ، و في الداخل كان العجب في انتظاره .. شرائط فيديو و معلبات فواكه و عصائر و عبوات شاي و سكر ، و راديوهات ترانزيستور و كاسيتات و سجائر ، كل شيء تقريبا يوجد هنا ، حتى أن وسيم توقع أنه لو سأل عن ابنه أو ابنته سيجدهما في الفاترينة و عليهم ورقة السعر .. خرج وسيم دون أن يشتري شيئا ، ولم يفته أن يلحظ نظرة البائع إليه بازدراء و حنق ، متحسرا على وقته الثمين الذي أضاعه مع هذا الزبون غير النافع .

قضى وسيم شهورا في القاهرة يحاول أن يبدأ حياته من جديد في بلده ، لكنه فشل و خسر و تعب ، فغادر كما جاء ، و لكن هذه المرة دون أن ينظر إلى الوراء ، على لافتة محل الشربتلي التي أصبحت ( بوتيك شربات ) .

مات وسيم في العام " 2005 " عن عمر يناهز السبعين ، و ترك وصية لم ينفذ منها أبناؤه سوى بند واحد فقط ، ألا و هو أن يدفن في مصر ، فقط لأن تنفيذ هذا البند يوفر المال و الجهد ، و يعفي أبناءه في إنجلترا من ثمن مقبرة و صندوق يليق بمستواهم الاجتماعي .. قامت ابنته وولده بشحنه على متن الطائرة المتجهة إلى مصر ، على أن يتسلمه أحد أقاربه هنا لتقوم عائلته في القاهرة بإيصاله إلى مثواه الأخير في مقابر العائله بالدرّاسة .. وصل الصندوق إلى قرية البضائع ، و تسلمته العائلة ، و ذهبوا به إلى بيت العائلة في شارع فؤاد ، لتخرج الجنازة ظهرا من هناك إلى المقابر .. إحتشد عدد قليل من الأقارب و الجيران و معارف الأهل و الأسرة ، تباكوا على الفقيد بفتور ، و انخرط بعضهم في أحاديث جانبية ليس لها علاقة بالفقيد .. دارت أقداح القهوة و أكواب الماء .. تمت إجراءات الغسل و التكفين و تحضير الميت للدفن ، توجهت الجنازة نزولا على سلالم البيت العتيقه ، خرجت مارة من أمام المحال المجاورة ، أحدهم مغلق يحمل لافتة كتب عليها " موبايلات شرباتكو " و على الباب كتبت عبارة : " تحت الحجز التحفظي ، مغلق لإفلاس التاجر " .

عدد جديد

صدر عدد ديسمبر من مجلة علّي صوتك

موضوعات متنوعة و مميزة

إفتتاحية العدد عن حكومة بطعم الكراملة

و ملف كامل عن التدوين

و حوارات مع المدونين

و تحليل للظواهر الغريبة في التدوين

و آراء مستقلة تتناول بالبحث و التحليل حياة المصريين و مشاكلهم

و قسم علمي متخصص أسمة علمي علمك للقرّاء ذوي الميول العلمية

أما في الرياضة فنتكلم عن أهلي الأنجازات

و أيضا عن الدورة العربية للألعاب الرياضية

و في فانتازيا نقدم ستوديو علّي صوتك و صور من الشارع المصري ليها العجب

و أيضا كليب حصري من أنتاج علّي صوتك عن الفنان ناجي العلي

أما في قسم الخدمات بنقدم

ساقية عبد المنعم الصاوي و برنامج هذا الشهر كامل لكافة العروض

و كمان برنامج و أماكن عروض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

و كمان معلومات عن مكان و موعد بدأ معرض القاهرة الدولي لكتب الأطفال

و أخيرا في باب المدونات أخترنا لكم ثلاث تدوينات

على بياض

و الساحر الأخير

و نقاب الملائكة

نتمنى أن تستمتعوا بكل ما نقدم في هذا العدد

مع تحيات

أسرة التحرير