كانت كالعادة تضحك حانية على إحدى تلميذاتها في المدرسة ، ليال ، هذه التلميذة النجيبة التي تراها فتشع في روحها بهجة و ود ، كانت دائما تنظر إلى هذه التلميذة و تشعر بالفخر أنها تلميذتها هي ، في فصلها هي ، كما أن مشاعر ليال تجاهها كانت تشعرها بقيمة عملها كمعلمة ، مربية أجيال كما كانت تفضل دائما أن تقول . كانت تنظر إلى ليال و تسرح ، وتتمنى أن تكون لها ابنة في أخلاق ليال و جمال ليال و تفوق ليال ، و عند هذه الفكرة دائما كانت تدمع عيناها ، فهي تعلم أنها أمنية لن تكون ، و فرحة لن تحدث ؛ فهي لن تتزوج أبدا .. هكذا قررت منذ زمن ، وهكذا عاشت و رتبت حياتها . كانت تقول لنفسها دائما " ابناء إخوتي هم أبنائي ، و وحدتي هي درعي الحامي "، فتجارب الزواج حولها غير مبشرة ، ولا مشجعة على المجازفة بخطوة في هذا الاتجاه ، أبدا .
كانت تخرج من بيتها في الصباح الباكر وحيدة ، تشعر بالبرودة تسري في أوصالها ، ذاهبة إلى مدرستها التي تعمل بها ، لتعيش مشاكل زميلاتها و ضحكات زملائها ، و براءة تلميذاتها و تلاميذها ، و مع جرس انتهاء اليوم الدراسي ، تعود إلى وحدتها ، متجولة في المدينة الكبيرة ، و كأنها ترجو من المدينة أن تبتلع وحدتها .. رعشتها .. ولكن المدينة لا تستجيب ، و يتجدد الأمل مع كل يوم , تظل تحاول حتى تتعب ، فتقفل عائدة إلى بيتها ، الذي لم تشعر هي أبدا أنه بيتها ، و الذي لم تتعامل يوما معه على أنه كذلك .. تحاول أن تملأ وقتها بأحداث حياة أختها الكبرى ، و مشاكل العمل الخاصة بأختها الأخرى ، تحاول أن تذوب في تفاصيل حياة الآخرين ، دون جدوى ، فالوحدة ليست حدثا يمكننا أن ننساه ، بل حياة نعيشها .. و العجيب أنها هي من اختارت هذه الوحدة ، و أحبتها ، بل و صادقتها أعواما و أعواما . و ينتهي اليوم لتنام ، و تصحو وحيدة ، لتخرج من بيتها ترتعد من البرد ، وهي تفكر في ليال ، تلميذتها الجميلة ، فتتمناها ابنة ، و تهرب دموع عينيها من بين أجفانها مذكرة اياها بالدفء المفقود ، لتعلمها أن لاختيار الوحدة ثمن لابد لها أن تدفعه ، و تعرّفها أن هدوء الوحدة موت ، و أن صرير أسنان الوحيد بكاء و أنين .. تمر أحداث اليوم متشابهة مع أحداث أمس ، و أول أمس ، و تجلس هي مغمضة العينين في انتظار جرس انتهاء اليوم الدراسي ، لتبدأ هروبها إلى عالمها الوحيد من جديد .
ترررررررررررن .. ها هو صوت الجرس ، يصرخ معلنا بداية فصل جديد من محاولة الذوبان بين التفاصيل و الاستمتاع بألم الوحدة الخانق .. و لكن ما هذا ، فرنين الجرس لا يريد أن يخفت ، او يتوقف ، فجأة تشعر بكف حنون توضع على خدها برفق بالغ .. تفتح عينيها ..
" صباح الخير "
تنظر إلى وجهه بكل ارتياح و تعلق ( صباح النور )
قومي بقى علشان أنا نازل رايح الشغل ..
تبتسم و هي تتمطى بدلال ( عارف ، كنت بأحلم حلم ، فكرني بأيام ما كنت لسه عبيطة و عايشة وحيدة في الدنيا دي ) ..
- خلاص مابقتيش وحيدة ولا عمرك حاتبقي وحيدة تاني ..
تضحك و تتعلق برقبته ، و تطبع قبلة طفولية على وجهة قائلة :
"لو كان الجنين إللي في بطني بنت نسميها ليال ".