Pages

الصندوق


جلس على الكرسي الهزاز الوثير ملقياً رأسه ذو الشعر المصبوغ بعناية بسواد لامع إلى الوراء ، مصدرا تنهيدة طويلة ، ترقرقت داخل عينية دمعة صغيرة قبل أن تطبق أجفانه عليها لتحبسها داخل مقلتيه ، كان يتذكر سنوات عمرة الكثيرة ، مرحلة بعد أخرى ، منذ طفولته الغير سعيدة ، طفلا في قرية صغيرة هناك ، عند حدود مقاطعته القديمة ، إلى أن وصل إلى هنا ، في قلب العاصمة ، حاكما لوطنه لعقود متتالية ، تلك السنوات التي تحمل معها الكثير من الأحداث ، آلاف المواجع و آلاف الأفراح ، وملايين الفرص الضائعة ، هو يعرف أن الكثير من بني جلدته يعتبرونه طاغية و ديكتاتور و عميل ، فقط هو لا يعرف لما ، وعلى الرغم من أنه يعتبر نفسه ديمقراطيا جدا ، مازال داخلة شيء ما يصدقهم ، ولكي يقطع الشك باليقين كان لابد أن يصدر أوامره قبل قليل ، وهو إعادة الصندوق إلى القصر الرئاسي ليرى ما بداخله بنفسه .

تذكّر نفسه متألما عندما تولى ، أو بالأحرى ولّيِ منصب الرئيس ، كان يطمح إلى بناء مجتمع مغاير لما كان سائد وقتها ، صحيح أنه لم يكن يمتلك الكاريزما المناسبة ، ولا الرؤية الفكرية الواضحة ، إلا أنه كان يفكّر دائما في شيء مختلف يحدث في عهده ، فمَن قبله كانت دائما نقاط إرتكاز زعامتهم ترتكز على الحروب ، سواء كانت سياسية أو عسكرية ، أما الآن فلم تعد تلك النقاط صالحة للإرتكاز ، فلا البلاد يمكنها أن تحارب بعد أن كُبّلت بأغلال الإتفاقيات و المحاذير الدولية ، ولا هو الشخص القادر على تحمل فاتورة كسر تلك الأغلال ، صحيح أنه الآن الرئيس ، لكنه يعلم أنه لا يمتلك عقلية زعيم ، فقط هو يمتلك عقلية موظف ، يمكنه أن ينجز المهام في سرعة و بكفائة ، لكنه لا يمكنه أن يحلم ، أو يفرض حلمة على المستقبل ، كما فعل من سبقوه إلى هذا الكرسي ، وبعد تفكير ، قرر أن يجرّب العدل ، نعم ، أن يكون مشروعة في بداية رئاسته إستعادة العدل بين الناس ، وإرجاع الثقة بين الشعب و الحكومة ، وعليه ، فقد قرر وقتها أن يصنع صندوقا كبيرا ، يوضع في وسط أكبر ميادين العاصمة ، يكون مخصص لتلقّي شكاوى المواطنين ، ويكون هو وحده من يمتلك مفاتيحه ، يُنقل إليه ، أو ينتقل هو عنده ، فيفتحه ، ويقرأ مباشرة كلمات الناس العاديين المسطورة على الورق ، فيعرف أوجاع الناس ، وترشده مظالمهم ، إلى جوانب الضعف في حكمه ، كانت الفكرة أخّاذة ، ووجد وقتها من يشجعه على تنفيذها ، بل و يروّج لها ، وبالفعل آتت الفكرة أُكُلها ، وبدأت الناس تتفاعل مع الوضع الجديد ، بضع مئات ألقوا بشكواهم في البداية ، وبدأ هو بالقراءة ، والإسراع إلى الحل ، الشيء الذي أسعد الناس و شجّع آلاف المواطنين على كتابة المزيد من الشكاوى ، عدة أشهر ، لم يكن ورائه سوى فتح الصندوق الفولاذي كل يوم ، و قراءة ما به من خطابات ، أغلبها سازج و الكثير منها خطير ، والقليل منها كيدي و منافق ، مع الوقت إكتسب خبرة في أن يُصنّف الخطابات ، ويعرف منها ما يستحق عناء المتابعة و ما لا يستحق حتى النظر إليه ، صار حبيبا للشعب في تلك الفترة ، وأصبح الصندوق هو قناة الإتصال الكبيرة بينه و بين الناس ، كل الناس ، حتى أن العاملين الصغار في ديوان رئاسته عندما قرروا أن يتقدموا له بشكوى عن سوء معاملة أحد أكبر موظفيه تقدموا بها عن طريق الصندوق ، وسارع هو في حلها طبعا ، وإستمر هذا الوضع يوما بعد يوم وشهرا يعد آخر ، حتى كانت أولى زياراته إلى الخارج كرئيس ، رحلة غياب قد تطول أسبوعين أو ثلاثة ، سيزور فيها أكثر من دولة ، لم يعرف كيف سيتصرّف ، ومن سيقرأ شكاوى الناس ، ويسعى لحلها ، فما كان منه إلا أن أمر مساعدة أن يتولّى هو تلك المهمة ، وسلّمه المفتاح الوحيد للصندوق ، بعدها عندما عاد ، سأله عن الصندوق و الشكاوى ، وكانت المرة الأخيرة التي يتذكّر فيها الصندوق و الشكاوى و الناس ، مرّت بعدها سنوات و سنوات لم يلتفت إلى الصندوق ولم يُلفت الأمر إهتمامة ، حتى عندما تم نقل الصندوق من قلب الميدان الكبير إلى إحدى زوايا الميدان المهجورة ، حيث وضع مكانه تمثالا كبيرا له وهو يلوّح بيديه إلى الجماهير ، لم يعرف أو يهتم أن يعرف مصير الصندوق و شكاواه ، وإنقلب الوضع مع الوقت ، فأصبح من يبعث بشكواة عبر الصندوق ، يُستدعى لجهات تحقيق ، وتطوّر الأمر إلى أن يتم إستدعاء أصحاب الشكاوى إلى جهات أمنية ، و أخيرا أصبح تقديم شكوى عبر هذا الصندوق معناه الإختفاء التام في اليوم التالي و إلى الأبد ، الأمر الذي دعى المواطنين إلى العزوف عن إرسال شكواهم ، وبدأوا في إرسال أشياء اخرى بدلا منها .

في هذة الأثناء كان هو لا يسمع سوى أصوات من حوله من المنتفعين ، الذين دفعوه للتخلّي عن بطانته القديمة ، و أفكارة القديمة ، عن العدل ، والحق ، والوطن ، وأقنعوه أنه يحكم شعبا من الرعاع و الجياع و السوقه ، وأن هذا الشعب لا يمكن أن يفهم أو يفقه مسؤوليات الحرية ، و واجبات الحياة الديمقراطية ، أقنعوه أنه يجب أن يفكر بدلا من الشعب ، ويقرر بدلا من الشعب ، خاصة بعد أن أدخلوا في رأسه الكبير ، أن ما يفعله هو أبدع ما يمكن ، وأروع ما هو مستطاع ، وأن الناس ناكرة الجميل لا يرون فيه الخير لأنهم طامعون و شحاذون و جهله ، وأغرقوه في عبارات التفخيم و التبجيل و التعظيم ، هو و أسرته ، مما أقنعهم بأن ما تسمعه آذانهم مٍمَن حولهم هو حقيقة مطلقة ، فبدأوا سنوات من الصلف و الطغيان ، حتى وصل إلى الآن ، والآن هو يريد أن يعرف ، هل هو فعلا متجبرا و ديكتاتورا ، هل لديه الحكمة المطلقة كما يقول له كل من حوله في قصره و مجلس حكمه ؟ أم أنها خدعته الكبيرة التي خدع بها نفسه ، ليعوّض سنوات طويله من عمره قبل أن يصبح حاكما عاشها ، هامشيا داجنا يخدم مصالح من هم فوقه و لايملك لونا او طعما أو رائحة ، تقازفته الأسئلة ، وعانقته الحيرة عناق الشجار ، فلم يجد أمامة سوى الصندوق ، طلب إحضاره فورا ليقطع الشك باليقين ، فهو لم يتلقى عنه أي خبر منذ عقود ، وفي الحقيقة هو لم يهتم حتى بأن يطلب خبرا عنه ، يشعر الآن أنه ربما لم يكن ناسيا أبدا طوال هذة السنوات ، فقط كان يتناسى حتى لا تواجهه حقيقة مرّة ، هي انه باع قضية العدل مقابل مكاسب السلطة ، وها هو الآن تحت وطأة الضغط الشعبي ، وصياح الناس ، لم يجد أمامه بد من الإقدام على تلك الخطوة الحاسمة ، سأل نفسه بدهشه هل كان يخدع نفسه عندما ظن أنه يحكم شعبا سعيدا مستقرا ، هل للناس قدره على خداعه إلى هذة الدرجة ، أم تراه هو الذي كان يخدع نفسه ، ولكن كيف هذا ، وكل الأغاني له ، وكل المنشآت بإسمه و كل المشروعات بتوجيهاته و كل الإنجازات تحت إشرافه ، إذا فلماذا لا يكون الشعب سعيد ؟ ، لكنه بعد أن خرج الناس إلى الشارع يطالبون بسقوطه منذ ايام ، أهتزت داخله تلك القناعة ، وإنبطحت تاركة صورة قاتمة أمام عينه ، معربة عن غضب شعبي لم يكن يتصورة ، وأصبح يراه ، ويخشاه ، فصرخ في طلب الدليل

الصندوق ، الصندوق ، أخضروا الصندوق ، فورا و حالا

وها هو الآن مستقر أمامه كالذبيح فوق عشب حديقة منزلة الأخضر ، لم تستطع الزهور فيها أن تخفي بعبيرها الآخّاذ عبق ما بالصندوق من رائحة عفنه ، تدل على أن جدرانه أصبحت مستقرا لزخات البول الشعبي لسنوات ، أهّلها له موقع الصندوق المنزوي في طرف الميدان الكبير ، وعلى صفائحه الفولاذية نُقشت مئات العبارات ، أغلبها يهجوه ، وقليل منها يهجو زوجته و أولاده ، عبارات من نوعية تلك العبارات التي يهتف بها الناس اليوم ، وهم يطالبونه بالرحيل ، صرخ في طلب المفتاح ، كي يرى ما بداخل الصندوق من أوراق ، وعندما استقر في يده و مدّها ليعالج القفل القديم ، عادت به الذكريات إلى زمان ، كانت الناس تهتف له و بإسمه ، و كانوا يهتفون أيضا للصندوق ، ومع آخر دوره للمفتاح ، شعر أن الحقيقة اصبحت بين يديه ، وأنه سيعرف السر الذي دفع من أحبوه يوما ما ، إلى أن يكرهوه الآن ، و أن يحرموه شرف محبة الناس ، مد يده المرتعشة ليفتح غطاء الصندوق المعدني الكبير ، ساعده بعد الحاضرين بالطبع ، الرائحة عفنه ، لكن الرائحة في هذة اللحظة لا تعنيه ، هو يريد أن يرى ما بداخل الصندوق من أوراق و شكاوى ، أن يقرأها كلها علّها تنير له ما يعتريه من ظُلمة ، وبالفعل كان الصندوق مليء بالأوراق ، و لكنها ليست الشكاوى التي إنتظر أن يراها داخل صندوقه القديم ، ليست تلك الصفحات البيضاء التي كانوا الناس يخطّون عليها أوجاعهم في إنتظار شفائها على يديه ، بل هي قصاصات فارغة ، وأخرى مليئة بحبر غائم رطب ، قصاصات تافهة لا معنى لها ولا دليل ، ألقاها آلاف على مدار السنين ليتخلصوا منها ، ولكي يتخلصوا منها ، قرروا إرسالها له مستهزئين ، وليست هي فقط ، هناك أيضا بقايا مأكولات ، وجرائد ، ولفافات مناديل ورقية قذرة ، وعبوات مياة غازية فارغة ، و قصاصات أقمشة متسخة ، ونمل و فئران و ديدان و عوالق ، بإختصار وجد في الصندوق قمامة ، قمامة بكامل هيئتها المتعارف عليها شعبيا ، إستدار ، ومشى حتى السلم الرخامي ، وهو يصعد درجاته مطئطئا رأسه ، ومع كل درجة يصعدها ، يشعر بسقوطة المدوّي ، نظر نظرة أخيرة على إنجازاته التي يراها في الصندوق ، ودارة عجلة السؤال مره أخرى في عقله ، وظل السؤال عالقا في ذهنه وهو يوقّع بيان تنحيه عن السلطة ، لماذا كان الشعب يراسله بالورود ، والآن يراسله بالنفايات و القازورات و القمامة ؟ على الرغم من أنه هو نفس الشخص ، والصندوق هو ذات الصندوق ؟

2 comments:

sony2000 said...

بسم الله الرحمن الرحيم
الاجابه
الصندوق
لانوا اعملوا وسابوا لغيروا
وهي كانت مسئوليته

KING TOOOT said...

sony2000
تمام كده يا سوني
تحياتي
وتقديري
KING TOOOT